لم يعد الفقراء وحدهم الذين يعانون من الغلاء في البلاد العربية.. بل هناك شريحة اجتماعية كبيرة تمثل الأغلبية تجأر يومياً بالشكوى من ارتفاع أسعار كل شيء وبخاصة الغذاء والدواء والكساء والخدمات الضرورية للحياة، وأصبحت تعيش حياة صعبة بعد أن أهدرت جزءاً كبيراً من مدخراتها على احتياجاتها اليومية في ظل الأجور المتواضعة التي يحصل عليها أكثر من 90% من العاملين في البلاد العربية على اختلاف مستوياتها الاقتصادية.
وطوفان الغلاء الذي يطاردنا لا يرتبط بالإصلاحات الاقتصادية التي اتخذتها بعض البلاد العربية، حيث يعاني المواطنون والمقيمون في بلاد عربية، تعد من الدول المستقرة اقتصادياً، من غلاء غير مسبوق طال كل شيء، وأصبح يستنزف كل دخولهم وربما لا يفي الدخل بالمتطلبات والاحتياجات ومستوى المعيشة الذي تعودوا عليه مع أسرهم؛ الأمر الذي يتسبب في مشكلات داخل كثير من الأسر نتيجة العجز عن الوفاء بمتطلبات الأسرة.
وأصدرت لجنة الفتوى الرئيسة بالأزهر فتوى تؤكد تحريم الإسلام لاستغلال حاجة الفقراء ومحدودي الدخل، وتحذر المستغلين من المنتجين والتجار من عقاب الخالق سبحانه وتعالى، وتؤكد حق ولي الأمر- ممثلاً في الدولة بأجهزتها التنفيذية – في اتخاذ العقوبات المشددة ضد المستغلين لحاجة الناس.. لكنها لم تنس تذكير المستهلكين بالمنهج الإسلامي المعتدل في الإنفاق والاستهلاك.. مؤكدة أن السفه الاستهلاكي يضاعف من معاناة معظم الأسر خاصة تلك التي تعودت على نمط استهلاكي يرفضه الإسلام ويتعارض مع الاعتدال المشار إليه في قول الحق سبحانه (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الأعراف 31.. وقوله عز وجل (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) الإسراء 29.
«الاقتصاد الإسلامي» طرحت قضية ارتفاع أسعار الغذاء للمناقشة مع عدد من الخبراء والمعنيين بالشأن المعيشي للمواطن العربي، خاصة وأن أسعار الغذاء في تزايد مستمر، ومعاناة الشريحة الاجتماعية الأكبر من المواطنين والمقيمين تتضاعف، والإنسان الذي يعيش تحت ضغط مستمر لن يعمل وينتج كما ينبغي أن يكون العمل والإنتاج.
فكيف ينظر أساتذة وعلماء الشريعة والاقتصاد والزراعة إلى هذه المشكلة؟ وما تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية على مجتمعاتنا؟ وماذا قدم الإسلام من حلول واقعية وموضوعية للتعامل مع مشكلة بهذا الحجم؟ وما مسؤولية المستهلكين في إخماد نار الغلاء خاصة وأن الغالبية العظمى منهم يعانون من تواضع الدخول مع زيادة الأعباء.
القاهرة - بسيوني الحلواني
تداعيات خطيرة
في البداية يحذر المفكر الاقتصادي الإسلامي الدكتور محمد عبدالحليم عمر، أستاذ المحاسبة بجامعة الأزهر، من تجاهل الحكومات في بلادنا للتداعيات الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة لمشكلة أو أزمة غلاء أسعار الغذاء والتي ارتفعت بشكل غير مسبوق، وغير مبرر في كثير من الأحيان، وزادت حدتها في الدول العربية التي تعاني من مشكلات اقتصادية.
ويضيف قائلاً: في بعض الدول العربية التي تعيش حالة استقرار اقتصادي هناك شكاوى متصاعدة من غلاء الأسعار خاصة الغذاء والدواء واللباس، ومن الغريب أن معدلات ارتفاع الأسعار في العديد من البلاد العربية يزيد عن معدلاتها العالمية، وهذا يؤكد أن هناك خللاً في المنظومة الاقتصادية، وهناك ضعف في الرقابة على الأسواق وعدم قيام الأجهزة التنفيذية بواجباتها في ضبط الأسواق.. فالأسواق تعج بالفوضى وليس هناك رقابة جادة ولا عقوبات رادعة لمن يتلاعب بالأسعار ويستغل حاجة الناس إلى الطعام والشراب والدواء وغير ذلك من الاحتياجات الضرورية لمختلف فئات الشعب خاصة محدودي الدخل.
د. محمد عبدالحليم عمر: فوضى الأسواق شجعت على الاحتكار ورفعت أسعار الغذاء دون مبرر
ويشير الدكتور عمر إلى بعض مخاطر ارتفاع أسعار الغذاء – تحديداً – دون مواجهة جادة، كما حذر ويحذر خبراء زراعة واقتصاديون وخبراء أمنيون عرب من ترك هذه المشكلة في بعض البلاد دون حلول حيث تتضاعف معاناة الفقراء ومحدودي الدخل نتيجة الغلاء وندرة السلع الأساسية، كما تعاني بعض البلاد العربية شحاً متزايداً في الغذاء أو في أصناف ضرورية منه، ويعاني عدد كبير من المواطنين صعوبة بالغة في تدبير احتياجاتهم الغذائية بسبب ارتفاع الأسعار، خاصة في ظل عدم الاستقرار الاقتصادي الذي تعيشه بعض البلاد العربية.
مواجهة فوضى الأسواق
وهنا ينبه الدكتور عمر إلى خطورة ترك سوق الغذاء والدواء لهؤلاء الذين لا خلاق لهم من المنتجين والتجار الذين يتسابقون في رفع الأسعار دون ضابط .. ويقول: من أهم مسؤوليات الحكومات ضبط أسواق الغذاء بمنع الاحتكار ومحاسبة المستغلين والمضاربين في الأسعار.
ويضيف قائلاً: كما ينبغي أن ندرك أن مواجهة هذه المشكلة الكبيرة ليست مسؤولية الحكومات وحدها، بل الشعوب – المستهلكون ومنظمات المجتمع المدني – عليها أيضاً مسؤولية كبيرة، وعلينا أن نركز على أمرين مهمين هما (زيادة الإنتاج.. وترشيد الاستهلاك)، وهذان الأمران يفرضان علينا أن نتعامل مع مشكلة شح الغذاء بسياسات وعقليات جديدة لأن المشكلة تتفاقم وتزداد حدتها بسبب السفه الاستهلاكي من بعض فئات الشعب.
وفيما يتعلق بمسؤولية الحكومات يؤكد الدكتور عمر على ضرورة الاهتمام بإنتاج الغذاء محلياً أو معظمه على الأقل، وترشيد الاستيراد، وهذا يتطلب تشجيع الاستثمارات الخاصة في مجالي (الزراعة وصناعة الغذاء) مع التركيز على زراعة المحاصيل الزراعية الاستراتيجية مثل القمح والذرة والأرز والخضروات والفواكه الشائعة بين الناس، وتقليص المساحات المزروعة بالفواكه والمنتجات غير الضرورية وذلك لتوفير الغذاء الأساس للإنسان أو الحيوان.
وهنا يطالب الدكتور عمر بتحفيز المزارع العربي للإقبال على إنتاج المحاصيل الأساسية والتي يتهرب منها كثير من المزارعين لضعف العائد منها، والاتجاه إلى إنتاج الخضروات والفواكه لأنها أكثر ربحية.. كما ينبغي تحفيز الفلاح على صناعة معظم غذائه الضروري كما كان يحدث في الماضى، حيث أدت المتغيرات الجديدة في عالمنا العربي إلى اعتماد المزارع على الخبز المنتج خارج البيت، فضلاً عن شرائه كل متطلبات حياته المعيشية مما تسبب في تعاظم مشكلة الغذاء لمجموع السكان في كل دولة على حدة خاصة في بلاد زراعية مثل مصر والسودان وتونس وموريتانيا وغيرها من البلاد التي يلعب فيها القطاع الزراعي دوراً مهماً في توفير احتياجات مواطنيها من الغذاء.
كما أن هجر حرفة الزراعة والاستثمار فيها من جانب بعض الطبقات المتوسطة – كما يؤكد الدكتور عمر – ضاعف من المشكلة، فالزراعة لم تعد توفر مقومات الحياة الكريمة، ولم تعد تحقق لمحترفيها الحياة التي يتطلعون إليها لهم ولأسرهم، ولذلك هجرها قطاع كبير من العاملين فيها، وهذا يتطلب من الحكومات العربية تقديم حوافز لمن يمتهنون هذه الحرفة المهمة والحيوية وأهم ما يحتاجونه هو: التأمين الصحي لهم ولأسرهم، فضلاً عن توفير مقومات الحياة الكريمة لهم في حالة العجز والبطالة بتقديم معاش يكفل لهم حياة كريمة.
وينتهى الدكتور عمر إلى ضرورة توجيه اهتمام أكبر بالقطاع الزراعي في عالمنا العربي وتقديم حوافز للعاملين والمستثمرين فيه، ويقول: استيراد الغذاء قد يحل المشكلة أو يخفف من الأزمة بشكل مؤقت لكنه لا يقضي عليها ولا يوفر أماناً للمستقبل.
تراجع الاستثمار الزراعي
ويؤكد الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الأراضي والمياه بكلية الزراعة جامعة القاهرة، أن معظم مجتمعاتنا العربية تعاني من تراجع الاستثمار في القطاع الزراعي وعدم إضافة مساحات جديدة إلى الرقعة الزراعية تتناسب مع الزيادة المضطردة في عدد السكان.. ويقول: لابد أن نعترف أننا أهملنا القطاع الزراعي في معظم البلاد العربية، إن لم يكن جميعها، خلال السنوات الماضية، حدث هذا رغم تأكيد خبراء الزراعة والصناعة والاقتصاد على أن هذا القطاع هو القاطرة الأساسية للتنمية خاصة في البلاد العربية التي تمتلك مقومات زراعية جيدة، وقد أدى هذا التراجع أو الإهمال إلى زيادة حدة مشكلة الغذاء في البلاد العربية فاعتمدت كثير من الدول العربية على استيراد احتياجاتها الغذائية من دول أخرى ومع الارتفاع المتصاعد عالمياً في أسعار المواد الغذائية خاصة الزيوت والقمح والأرز والسكر وغيرها كان من الطبيعي أن ترتفع أسعار الغذاء في عالمنا العربي، حيث لم تعد كثير من الحكومات تقدم دعماً كافياً أو مناسباً للمواد الغذائية الأساسية وكان الفقراء ومحدودو الدخل هم الضحية الأولى لذلك.
د.نبيل نور الدين: عار على “أمة الزراعة” أن تستورد معظم غذائها من خارج البلاد العربية
ومن هنا يرى الدكتور نور الدين أن أولى خطوات المواجهة الشاملة لأزمة الغذاء في بلادنا العربية أن نعود إلى إنتاج معظم ما نأكله ونشربه خاصة وأن لدينا ما يمكننا من ذلك، فالأرض الصالحة لزراعة كل المنتجات الزراعية وخاصة المحاصيل الأساسية موجودة، ولابد أن يعود المزارع إلى تربية الحيوانات المنتجة للحوم والألبان التي يستهلكها ويبيع الفائض منها كما كان يفعل في الماضي.
ويضيف قائلاً: ليس من المقبول من «أمة الزراعة» أن تستورد معظم غذائها من خارج البلاد العربية وهي قادرة على إنتاجه ولديها كل مقومات الإنتاج الزراعي الذي يفي باحتياجات مواطنيها بل وتصدير الفائض إلى خارج العالم العربي.
كما يؤكد الدكتور نور أيضاً على ضرورة إعطاء دفعة قوية للاستثمار الزراعي وتقديم حوافز استثمارية جيدة خاصة بعد أن أصبحت الزراعة في مؤخرة أولويات المستثمرين العرب الذين يهربون إلى الاستثمار في قطاعات أكثر ربحاً وأقل جهداً مثل قطاعات السياحة والعقارات وغيرها.
ويضيف قائلاً: لابد من جذب المستثمرين إلى القطاع الزراعي وتقديم حوافز لهم كتقديم أراضي صالحة للزراعة بأسعار معقولة، وإقامة مشروعات صناعية تقوم على منتجاتهم الزراعية.
ومن واقع خبرته كمستشار أسبق لوزير التموين في مصر وعضو في مؤسسات معنية بالتجارة الداخلية في قطاع الغذاء يؤكد الدكتور نور الدين أن قطاع التجارة في السلع الغذائية يفتقد إلى الأسلوب العلمي وتسيطر عليه العشوائية.
وحول المغالاة في أسعار المواد الغذائية يقول الدكتور نور الدين: الفقراء ومحدودو الدخل يجأرون يومياً بالشكوى من ارتفاع أسعار الغذاء، وأن بعض هذه الزيادات المضطردة غير مبررة على الإطلاق، خاصة إذا كانت بعض هذه الأغذية التي ارتفعت أسعارها مؤخراً منتجة محلياً كما هو الحال في مصر، فقد ارتفعت أسعار الألبان ومنتجاتها واللحوم البلدية والدواجن ومشتقاتها بشكل يفوق طاقة محدودي الدخل وليس الفقراء فحسب، وهو ما يضاعف من معاناة هؤلاء ويفرض على الدولة أن تتدخل بثقلها لضبط الأسواق وردع المستغلين.
ويقول: الجهود التي تبذلها العديد من الحكومات العربية للتخفيف من حدة الغلاء وتيسير سبل العيش الكريم لمواطنيها لم تعد كافية؛ حيث تسيطر على الأسواق في بعض البلاد التي تعاني من مشكلات اقتصادية فوضى كبيرة، وتداعيات الغلاء الاقتصادية والاجتماعية تتلاحق وتهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في العديد من بلادنا الإسلامية والعربية.
وعن الحالة المصرية يؤكد أستاذ الزراعة بجامعة القاهرة أن قطاع الزراعة يعاني تراجعاً مستمراً في إنتاج عدد غير قليل من المحاصيل الاستراتيجية مما يؤدي إلى تنامي الفجوة الغذائية عاماً بعد عام. فعلى سبيل المثال كانت مصر في منتصف القرن الماضي من أكبر ثلاث دول مصدرة للفول والعدس ثم تحولت خلال هذا القرن إلى دولة مستوردة لكامل احتياجاتها من العدس ونحو 70% من احتياجاتها من الفول وهما من السلع التي ترتبط بحياة الفقراء وبرجل الشارع، ويعود السبب إلى زيادة المستورد منهما إلى تدهور إنتاجية أصنافهما المحلية، وعدم إحلالهما بأصناف جديدة أكثر مقاومة للإصابات المرضية والحشرية وتغول الحشائش وفي نفس الوقت تكون عالية الإنتاجية لتتماشي مع معدلات الإنتاج المرتفعة لهذه الحاصلات في الدول المتقدمة.
ويضيف قائلاً: غياب الدعم المالي عن البحث العلمي في مجال الزراعة وغياب مخصصات تطوير الأصناف الزراعية ذات الشهرة العالمية والتي تتماشى مع نمط غذاء المصريين سبب آخر لتراجع إنتاجية الفول والعدس وصولاً إلى اختفاء كامل لزراعات العدس، والأمر يحتاج إلى إعادة النظر في مخصصات البحث العلمي الزراعي لزيادة الإنتاجية واستنباط الأصناف عالية المقاومة للظروف البيئية.
السبب في تراجع الإنتاج
الدكتور علاء عز، الخبير الاقتصادي، الأمين العام للغرف التجارية المصرية، يؤكد أن ارتفاع أسعار الغذاء ليست مشكلة عربية، فالأسعار عالمياً تتزايد بشكل ملحوظ وهناك بورصة عالمية للغذاء تراقبها وتنقل مؤشراتها منظمة «فاو» حيث تطالعنا كل شهر بالتغيرات التي تطرأ على أسعار المحاصيل الغذائية الرئيسة من قمح وأرز وسكر وزيوت وغير ذلك، وهي تتصاعد بمعدلات أحياناً تكون مبررة ونتيجة تغيرات مناخية تطرأ على الدول المنتجة والمصدرة لهذه المحاصيل، وأحيانا تكون غير مبررة.. لكنها في كل الأحوال تؤثر على سوق الغذاء في عالمنا العربي نتيجة الاعتماد على الاستيراد وتراجع معدلات إنتاج الغذاء في معظم البلاد العربية بما فيها الدول الزراعية.
د. علاء عز: رغم “عالمية المشكلة” إلا أن الدول العربية مطالبة بإجراءات مواجهة عملية
ورغم أن ارتفاع أسعار الغذاء مشكلة عالمية وليست عربية إلا أن الأمين العام للغرف التجارية المصرية يعترف بأن معظم الدول العربية لم تقدم حلولاً عملية للتخفيف عن مواطنيها، فكان المستهلك هو الضحية الأولى لزيادة أسعار الغذاء محلياً وكان ينبغي على الحكومات العربية أن تتبنى خططاً لزيادة المنتج من الغذاء محلياً وتوفير بدائل للمستورد مرتفع الثمن وعدم اللجوء إلى الاستيراد إلا في حالة الضرورة ولكن هذا للأسف لم يحدث ومازال سوق الاستيراد العشوائي للغذاء وغيره مفتوحاً وتمتلئ أسواق البلاد العربية بسلع غذائية استفزازية بينما لا تجد شريحة اجتماعية كبيرة احتياجاتها الأساسية من الغذاء!!
ويعترف الأمين العام للغرف التجارية المصرية بوجود فوضى في الأسواق، ويؤكد أن مراقبة السوق من قبل الأجهزة الحكومية ومنظمات المجتمع المدني أمر مطلوب في كل الأحوال وتزداد الحاجة إلى هذه المراقبة في حالة وجود أزمات أو قرارات إصلاح اقتصادي، كما حدث في مصر خلال الشهور الأخيرة، حيث استغل البعض قرار تحرير سعر صرف الجنيه ورفع الأسعار بشكل مبالغ فيه وغير مقبول، وهؤلاء في حالة الإبلاغ عنهم والتأكد من تلاعبهم بالأسعار أو ممارسة الاحتكار توقع عليهم عقوبات من قبل الغرف التجارية.. ولذلك فإن المواطن – المستهلك – عليه دور مهم حيث ينبغي في مثل هذه الظروف أن يكون أميناً على اقتصاد بلده وأن يكون له دور في ضبط الأسواق، فلا يشتري إلا ما يحتاج إليه، وأن يبادر بالإبلاغ عن أي شركة أو متجر يبالغ في أسعاره ويستغل حاجة الناس.
ويضم الدكتور عز صوته إلى صوت الدكتور محمد عبدالحليم عمر في التحذير من التداعيات الخطيرة لارتفاع أسعار الغذاء وعدم قدرة محدودي الدخل – فضلاً عن الفقراء – على الوفاء باحتياجاتهم الضرورية من الطعام والشراب والعلاج.. ويقول: لا ينبغي التهوين من خطورة ارتفاع أسعار الغذاء في بلادنا العربية، ولا ينبغي النظر إليها على أنها ظاهرة مؤقتة، لأن الأسعار التي ترتفع لا تعود مرة أخرى إلى معدلاتها الطبيعية إلا نادراً.
لذلك يؤكد الأمين العام لاتحاد الغرف التجارية على ضرورة مواجهة موجات غلاء أسعار الغذاء والدواء والكساء بخطوات عملية وإجراءات في كل دولة على حدة تستهدف زيادة المنتج من احتياجات المستهلكين محلياً وطرحه بأسعار منافسة تراعي ظروف محدودي الدخل، وهذا ما قامت به بعض المؤسسات الرسمية في مصر، وعلى الرغم من أنها ليست معنية بالإنتاج الغذائي إلا أنها دخلت الأسواق بالعديد من المنتجات لمواجهة شح بعض المنتجات الغذائية أو ارتفاع أسعارها واستغلال بعض التجار، وأسهمت إلى حد ما في تخفيف الأعباء الاقتصادية عن محدودي الدخل.
تداعيات نفسية وصحية
ويؤكد الدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، من جانبه أن التداعيات الصحية والنفسية لـ»ضنك المعيشة» كثيرة ومتنوعة وأخطرها إصابة من يعاني منها بالأمراض النفسية التي تحوله من إنسان منتج مفيد لأسرته إلى إنسان مريض نفسياً وبالتالي عضوياً.. والمريض النفسي أو العضوي لن يعمل ولن ينتج كما ينبغي، بل قد يتحول من منتج إلى مستهلك فقط ويصبح عبئاً على أسرته ومجتمعه.
أيضاً.. يؤكد أستاذ الطب النفسي أن عدم قدرة الفقراء ومحدوي الدخل على توفير الطعام الصحي لأسرهم بسبب ارتفاع ثمنه قد أدى إلى إصابة الكثيريين بأمراض سوء التغذية، وهي أمراض أصبحت شائعة بين الكبار والصغار وتبدو بشكل كبير على الأطفال وأصحاب الأجساد الضعيفة.
د. محمد المهدي: تداعيات صحية ونفسية للغلاء والمهموم بمشكلاته المعيشية لن يستطيع أن ينتج كما ينبغي
وكما يحذر الدكتور المهدي من سوء التغذية الذي يصيب غير القادرين على تدبير طعام صحي متكامل العناصر لهم ولأسرهم؛ يحذر من التخمة التي تصيب المسرفين الذين يهدرون نعم الله ويلحقون الأذى النفسي والجسدي بأنفسهم نتيجة الإفراط في تناول الطعام والشراب، ويؤكد أن الميزان الإسلامي في الطعام والشراب هو الأمثل صحياً ونفسياً واجتماعياً، ويحث كل مسلم على الوقوف عند حد الاعتدال الذي أكد عليه القرآن الكريم في العديد من آياته ومن بينها قول الحق سبحانه: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الأعراف 31، فالله سبحانه لا يحب للإنسان ما يضر به ويلحق به الأذى.
وإلى جانب كل ما سبق يضم الدكتور المهدي صوته إلى أصوات العلماء والخبراء الذين حذروا من ترك الأعباء المعيشية للمواطن دون حلول واقعية وعملية للتخفيف من معاناته.. ويقول: كل المشكلات التي شهدتها بعض الدول العربية خلال السنوات الأخيرة كانت لأسباب معيشية صعبة، ولا شك أن ترك المشكلات والأزمات تتراكم دون حلول يعرضها لمشكلات وأزمات جديدة.. ولذلك فإن الاستقرار الذي ينشده كل مجتمع يتوقف تحقيقه على مدى ما يقدم من حلول وإجراءات عملية لتيسير المعيشة، وحل المشكلات اليومية للمواطنين، وخاصة الطبقات الاجتماعية ذات الدخول المتواضعة، والتي تشكل نسبة كبيرة من المواطنين والمقيمين في كل البلاد العربية.
نهم استهلاكي يرفضه الإسلام
الدكتور محمد نبيل غنايم، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة، يؤكد على مسؤولية الحكومات في توفير منتجات غذائية بجودة مناسبة وأسعار معتدلة لشعوبها خاصة في ظل تواضع الأجور في معظم البلاد العربية وارتفاع أسعار الغذاء المحلي والمستورد.. ويطالب بمنظومة سعرية عادلة تحقق الربح المعتدل للمنتج والتاجر، وتفي بحاجة المستهلك دون استغلال.
لكنه يشدد على ما أكدت عليه لجنة الفتوى بالأزهر من ضرورة ترشيد الاستهلاك والاعتدال في الإنفاق الغذائي، لأن هذا الاعتدال من شأنه أن يحمي المجتمع من الأزمات نتيجة النهم الاستهلاكي وتخزين السلع الغذائية في البيوت خوفاً من شحها أو ارتفاع أسعارها.
د.م حمد نبيل غنايم: النهم الاستهلاكي يفاقم المشكلة والتوعية بالترشيد مسؤولية الأطباء والدعاة
ويؤكد الدكتور غنايم أن ضعف التعاون التجاري والافتصادي بين البلاد العربية يضاعف من أزمة الغذاء، ويقول: تعاليم الإسلام تؤكد على فرضية التعاون بين المسلمين في كل ما يحقق مصالحهم الدنيوية، وتجعل التعاون والتكامل فريضة، والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تأمر بالتعاون والتكامل والتضامن في شؤون الدنيا أكثر من أن تحصى.
وينبه الدكتور غنايم إلى أن الإسلام حثنا على مواجهة مشكلة ندرة أو شح الغذاء بوسائل عدة حيث لا ينبغي أن نكتفي بالشكوى ولا نبذل طاقتنا لحل مشكلاتنا والتخفيف من أزماتنا.. وأول هذه الوسائل هي المزيد من العمل المنتج، وقد وجهنا الإسلام في مجال العمل والإنتاج إلى أن ننتج أولاً ما نأكله ونشربه عن طريق الزراعة التي أولاها الإسلام عناية كبيرة.
ويضيف قائلاً: لا شك أن إهمال الزراعة وتراجع الإنتاج الزراعي الذي يمثل ضرورة لغذاء الإنسان والحيوان يعد من الأسباب الرئيسة لمشكلة ندرة الغذاء وارتفاع ثمنه في بلادنا العربية.. وعلينا هنا أن نتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (رواه البخاري).. فهذا الحديث النبوي الشريف يؤكد أن الإسلام يولي إنتاج الغذاء أولوية مطلقة ويجعل هذا النوع من الإنتاج رمزاً لكرامة الإنسان وعزته، وقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين أن يعملوا وأن ينتجوا، وذلل لهم الأرض ليمشوا في مناكبها، ويأكلوا من رزق الله الذي يسره لهم فقال سبحانه وتعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) الملك 15. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة» (رواه الترمذي والنسائي).
ومن هنا يؤكد الدكتور غنايم على أنه من الخطأ أن يظل المسلمون بطونهم جائعة حتى يأتيهم الغذاء من خارج أوطانهم.. ويقول: أرضنا صالحة للزراعة وبيوت معظمنا صالحة ومهيأة لتربية الحيوانات المنتجة للحوم والألبان، وكذلك الطيور .. كما أن رجال الأعمال العرب والمسلمين يجب أن تتوجه استثماراتهم إلى قطاعات الزراعة وإنتاج المواد الغذائية وطرحها في الأسواق دون استغلال وطمع في أرباح طائلة كما يفعل معظمهم.
ويشدد الدكتور غنايم على ضبط الاستهلاك بقيم وتوجيهات الإسلام؛ مؤكداً أن السفه الاستهلاكي يعد سبباً مباشراً في تفاقهم أزمة الغذاء وارتفاع ثمنه في بلادنا، والاعتدال في الاستهلاك سيسهم كثيراً في حل المشكلة وانخفاض أسعاره حيث سيقل الطلب عليه نتيجة الترشيد والاعتدال في الاستهلاك.
وهنا يطالب الدكتور غنايم الأطباءوأساتذة وعلماء الإسلام وخبراء التغذية في كل المواقع القيام بحملات توعية للجماهير في العالمين الإسلامي والعربي – غنيها وفقيرها – بترشيد استهلاك الغذاء والحد من السفه الاستهلاكي حرصاً على صحتهم وأموالهم ومراعاة وحفظاً لنعم الله التي يتطلع إليها الفقراء وأصحاب الحاجات في بلادنا العربية.
جهد دعوى وإعلامى
الدكتور محمود الصاوى، وكيل كلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر، يؤكد أن إقناع المستهلك العربي بالاعتدال في استهلاك الطعام والشراب والوقوف عند المنهج الإسلامي الذي يستهدف مصلحة الإنسان يحتاج إلى جهود موازية لجهود الدعاة وخطباء المساجد يقوم بها الإعلاميون من خلال البرامج المختلفة وخاصة برامج طهي الطعام والحفاظ على الصحة العامة والرشاقة والتي تنتشر في كل وسائل إعلامنا وخاصة الفضائيات.
ويضيف قائلاً: ديننا العظيم والمتوازن والمعتدل في كل أمر من الأمور نظم لنا عملية الإنفاق والاستهلاك بما يحقق للإنسان حاجاته ورغباته ويحافظ على نعم الله وخيراته، وما يحافظ أيضاً على صحته وأمواله، ولا شك أن ما يحدث في عالمنا العربي من شره وسفه استهلاكي أمر لا يقره دين ولا عقل، كما أن الاستمرار في هذا الشره الاستهلاكي سيضاعف من حالة الغلاء التي نعاني منها، ويجب إقناع القادرين ومعهم محدودي ومتوسطي الدخل في بلادنا العربية بمراجعة سلوكهم الاستهلاكي والتوقف عن الإنفاق الزائد عن الحد.
د. محمود الصاوي: مطلوب جهود طبية ودينية وإعلامية لإقناع المواطن العربي بترشيد الاستهلاك
من هنا يؤكد الدكتور الصاوي على ضرورة أن تتواكب حملات التوعية الدينية التي يقوم بها الدعاة وخطباء المساجد مع حملات توعية من خلال وسائل الإعلام والثقافة لترشيد استهلاك المواد الغذائية، ولابد أن يكون للأطباء دوراً في هذا الترشيد حتى لا يصاب المواطن بالتخمة وبالتالي العديد من الأمراض، وترشيد الاستهلاك هنا يحقق له فوائد صحية وفوائد اقتصادية، وذلك إلى جانب التزامه بتعاليم دينه.
ويطالب الدكتور الصاوي بزيادة الجرعة الدينية لأبنائنا في المدارس وفي وسائل الإعلام المختلفة، مؤكداً أن التربية الدينية الصحيحة تساعد على ضبط السلوك الاستهلاكي، فالمسلم الذي يعرف تعاليم دينه يتمتع بالقناعة والرضا، ولديه القيم المتحكمة في السلوك الإنفاقي والاستهلاكي للإنسان، ومن هنا تظهر حكمة الإسلام الذي اهتم بالإنفاق والاستهلاك اهتماماً كبيراً وشرع من الأحكام السديدة والتوجيهات الرشيدة ما يضبط سلوك الإنسان.
ويضيف قائلاً: المسلم البصير بتعاليم دينه يعرف الضوابط الشرعية للاستهلاك وينفق على الطعام والشراب دون إسراف، ولا ينفق إلا على الحلال، ويتجنب كل صور السفه والتبذير والإسراف، فالإسلام يفرض على المسلم الإنفاق والاستهلاك في حدود الدخل والثروة .. كما أن الإسلام يرفض استهلاك المحاكاة الذي ينفق فيه الإنسان ليس لسد حاجة وإنما تقليداً للآخرين خاصة الأغنياء، فهذا سلوك منهي عنه شرعاً.
اشترك معنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق